صاحبة الحذاء الممزق
حذائي الممزق
ما أفعل بهذا الثقب الذي ظهر في حذائي الوحيد، والآن سأمشي إلى المدرسة في طريق طويل من طوله ستقع أعين الفتيات زميلاتي عليه مهما كان حديثنا ممتعا، وكأنه هذه الدنيا تحب كل صريح فتستر عيوبه، وتدور تكشف سر كل من تستر منها بعيبه، سيرون ثقب حذائي وليس ببعيد أن يلمزنني بلقب صاحبة الحذاء الممزق، لابد وأن أتصرف ولكن ما عساي أن أفعل؟؟. أأقول لوالدي الذي لا أراه في اليوم غير ساعة قبل نومي ويأتي بعشاء اليوم ويعتذر عن دفع مصاريف غدا، أم أقول لأمي التي يتصبب عرقها كل يوم من شمس هذا الشارع وهي تشتري لنا الخضراوات ولا يكمل ما معها من نقود لتشتري مع الخضراوات بعض اللحم أو حتى دجاجة!
لا يوجد حل إلا لو استطعت تلوين جوربي باللون الأسود في مكان الثقب فيظهر أمام الناس أنه جزء من الحذاء، وألمع الحذاء جيدا كي لا يلتفت له أحد.
ومشيت بهذا الحذاء الممزق عاما كاملا وكلما اتسع الثقب لونت جزءا أكبر من الجورب، وهكذا حتى أعطتني امرأة عمي حذائها القديم الذي ضاق على قدمها ففرحت يومها فرحا شديدا قد كان كالجديد تماما وأخذت أجوب الشوارع بثقة فأنا الآن صاحبة حذاء جيد وجوربي لونه أبيض من كل الأنحاء.
لماذا لم تشغلني مشكلة ضيق المكان في بيتنا إذ لا تسع أرضه كل أخواتي وأنا إذا أردنا أن ننام ونحن نشاهد التلفاز، بل لابد أن ننام بشكل عكسي قدم كل واحد منا في وجه الآخر، كانت الأيام رغم قلة الرزق فيها غنية بالحب والفرح والضحك الذي ينسينا أي ضيق.
لكنني كلما رأيت من هو في مثل سني في نعمة سألت الله أن يرزقني من فضله الواسع ما أريد، وكلما دعوت ربي وتأخر في الإجابة أعلم أن الله يحمل لي من الفضل ما لا أستطيع حمله.
قد كان تفوقي في الدراسة سببا لجعل كل المعلمين يهتمون بي ويبشون في وجهي؛ وكنت لذاك الوجه السمح واللغة الطيبة آكل الكتب أكلا حتى يستمر هذا التعامل ولا أخذل عيونهم التي كانت تعدني بأنني سأكون شيئا في يوم ما!
ومرت الأيام وكلما مرت كان يضرب الفقر وجهي بطني وكرامتي فلا أستطيع مثلا شراء كتاب الأسئلة التي تطبق بها على الدروس فأتذلل لصاحبة، وأدخر من مصروف إفطاري كل يوم كي أشتري بعض الأوراق الخاصة بالمراجعات النهائية، وأسمع كلمات مثل لماذا لا تشتري كتابا لك بدلا من استعارتك للكتاب كل يومين؟
ما أقسى كلمات الغني على صدر الفقير تجعله لا يتنفس إلا من جزء صغير في أنفه! لا يملأ الرئتين الهواء، الصدر مكتوما مهما كان الجو من حوله منعشا، الليل مخيم حوله والشمس ساطعة والسحب البيضاء، ورغم الألم كانت ابتسامة أمي تعدني بصبح تتغير فيه الأحوال.
ودخلت الجامعة وجاء شاب فقير مثلي يطلب الزواج، فقال أبي أولادي مثلا من أين سيأتي لهن رجال أيديهم طائلة، فتزوجني الشاب الفقير، ودق الفرح باب قلبي بعد الكثير من الأعوام، صحيح ما تغير الضيق ولا تغيرت أصناف الطعام ولكن أن تضع رأسك على كتف قلب يحبك وتغمض دقيقتين وقتها سترى السبعة ألوان، ما عاد اللون الأسود هو ما أراه دائما، ما عاد لمز الفتيات هو ما أسمعه، بل سمعت اشتقت إليك وأحبك وهيا بنا نذهب.
وبعد بضع سنوات أصبح عندي البنين والبنات، صار الحب لا يشغل رأسي بقدر ما مستقبل هؤلاء؟ صرت أرى الدنيا بعين الخائف المترقب لغد، رزقني الله من فضله ووسع رزقي وصرت لا أخشى الفقر عليهم، لكنني أخشى أن لا أوفق في تربيتهم كما يجب، صار صوت الأذان نذير تقصير إن ما علمت أبنائي الصلاة، ومقاطع التلفاز تشق صدري وتقول أستتركين أولادك هؤلاء للدنيا تقطع في برائتهم وترحلين؟!
وقتها شعرت أن دوري أن أكتب قصصا لهؤلاء الذين نتركهم كآباء للهواتف والتلفاز، وأمام زحام الحياة ننسى أن نذكرهم بمكارم الأخلاق، قررت أن أحمل الآداب وأضعها في قالب قصصي شيق يجذب كل طفل، ويربي له الضمير ويعرف الثوابت والمسلمات، وكتبت مئات القصص في عتمة الأيام لا يراها إلا كل قريب أو صاحب فأعلم أنها لن تبرح هذا المكان ستظل على هاتفي وجهاز أطفالي فقط، فكيف ستخرج قصصي هذه يوما للنور؟!
وفي يوم الله الذي يرى القلوب يعلمه، رأى خالد خميس الغامدي صاحب موقع تعليمي from teacher جميل أهدافي فآمن بها وأصدر لي أول كتاب وتكفل بكل مصاريفه، ففرحت كأن أحدًا أمسكني نجم السماء العال، فكيف لهذه الفقيرة صاحبة الحذاء الممزق أن يكون اسمها يوما على غلاف الكتاب؟! ويوم بعد يوم أصدر لي كتابا آخرًا ثم كتابا آخرًا؛ إلى أن عرف هذا الموقع أنني أملك من القصص الكثير فسألني أن يطبعهم جميعهم وعندما فقدت عقلي وصرت أهزي بكلمات كيف لي؟ أنا لم أقدم أي شيء؟ أنا لم أصنع أي شيء كي يرزقني الله بكل هذا الرزق فقال لي: "وتشاءُ أنت من البشائر قطرةً.
ويشاءُ ربُك أن يُغيثك بالمطر
وتشاءُ أنت من الأماني نجمةً
ويشاءُ ربُك أن يُناولك القمر
وتشاءُ أنت من الحياة غنيمة
ويشاءُ ربُك أن يسوق لك الدرر
وتظلُ تسعى جاهدا في همة
والله يعطي من يشاء إذا شكر
والله يمنع إن أراد بحكمة
لابد أن ترضى بما حكم القدر
وأنشات أفكر في حذائي الممزق كيف لم يجرح كبريائي وكرامتي، كيف رممت ظروفي القاسية في العيش خواطري وأصبحت أسعى لشكر الله بكتابة قصص عن مكارم الأخلاق للصغار، وأتعلم منها قبل كل صغير أن الله واسع الكرم شمل بجوده صاحبة الحذاء الممزق وسخر لها من جنده من يسعى لتحقيق جميل آمالها في دنياها والله عنده ثواب الآخرة.
إرسال تعليق